تشاد- ترشّح ديبي الابن يرسّخ حكم العسكر بدعم داخلي ودولي

المؤلف: د. بدر حسن شافعي11.12.2025
تشاد- ترشّح ديبي الابن يرسّخ حكم العسكر بدعم داخلي ودولي

في تطور لم يكن مفاجئًا، أعلن رئيس المجلس الانتقالي "العسكري" في تشاد، محمد إدريس ديبي، رسميًا عن خوضه غمار الانتخابات الرئاسية المرتقبة في شهر مايو/أيار القادم. وعلى غرار ما دأب عليه العسكريون، علل ديبي قراره هذا بالإشارة إلى نجاحه المزعوم في الحفاظ على استقرار البلاد وتجنيبها الفوضى العارمة، وذلك عقب وفاة والده في عام 2021، والذي حكم البلاد بقبضة حديدية لمدة تناهز الواحد والثلاثين عامًا.

ولم يغفل ديبي الابن عن إضفاء لمسة "ديمقراطية" على ترشحه، مدعيًا أنه يستجيب بذلك لنداء حزبه، "الحركة الوطنية للإنقاذ"، الذي يقود ائتلافًا ضخمًا يضم ما يربو عن 220 حزبًا تحت مسمى "ائتلاف من أجل تشاد موحدة"، وكان هذا الائتلاف قد حثه على الترشح في شهر يناير/كانون الثاني الماضي.

وطالما أن الرئيس "المقبل" يحظى بدعم هذا الكم الهائل من الأحزاب، فإن الحاجة تبدو منتفية لإجراء انتخابات حقيقية، والتي ستكون في الأغلب الأعم مجرد "إجراء شكلي"، وتتويجًا لتمكن "الانقلابيين" من السيطرة على كافة مفاصل الدولة. هذا التوقع لم يخفه صراحة محمد أمين بادا، الأمين العام للائتلاف الحاكم، حين صرح بأن الرئيس "لن يحتاج إلى خوض حملات انتخابية مضنية، لأن 220 حزبًا سياسيًا متحدين في ائتلاف من أجل تشاد موحدة سيضمنون له بالفعل الحصول على 65٪ من الأصوات".

أعلن ماسرا بصورة شبه علنية تأييده للدستور الجديد، رغم أنه كان من أشد المعارضين للنظام، وقدّم نفسه على أنه الطريق الثالث بين النظام والمعارضة

وهكذا، يُسدل الستار على الانقلاب الذي نفذه ديبي الابن في شهر أبريل/نيسان من عام 2021، وذلك إثر وفاة والده المفاجئة قبيل الإعلان عن فوزه بولاية رئاسية سادسة مدتها ست سنوات. وقد تم ذلك في مخالفة صريحة للدستور الذي ينص بوضوح على أن يتولى رئيس الجمعية الوطنية "البرلمان" مقاليد الحكم لفترة انتقالية، وذلك إلى حين إجراء انتخابات نزيهة وشفافة. بيد أن ديبي وحاشيته العسكرية قاموا بتعطيل العمل بالدستور، وحلوا البرلمان، وشكلوا مجلسًا انتقاليًا يتولى السلطة لمدة 18 شهرًا، على أن يتم بعدها إجراء الانتخابات المنشودة.

وقد شهدت العاصمة القطرية الدوحة حوارًا وطنيًا شاملاً قبل انقضاء هذه المدة، وكان من بين القضايا الهامة المطروحة للنقاش، مسألة عدم ترشح أعضاء المجلس "العسكري" الانتقالي في الانتخابات القادمة، بالإضافة إلى إعادة تشكيل الجيش، بحيث لا يقتصر تمثيله على أقلية "الزغاوة" التي ينحدر منها كل من ديبي الابن والأب. إلا أن هذا المقترح قوبل بالرفض القاطع من قبل أعضاء المجلس، الأمر الذي أشار بوضوح إلى وجود نية مبيتة لديهم للبقاء في السلطة، والترشح في الانتخابات الرئاسية.

وهو الأمر الذي رفضته المعارضة بشدة في حينه، وقادت حراكًا شعبيًا واسع النطاق في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2022، وذلك بعد انتهاء المهلة المحددة من قبل المجلس "18 شهرًا" لتسليم السلطة. وقاد هذا الحراك بنجاح لافت نجاح ماسرا، رئيس الحكومة الحالي، ورئيس حزب "التغيير أو الانتقال" (Transformateurs).

وأسفرت هذه المواجهات الدامية، التي اندلعت بصورة أساسية في معقل المعارضة في الجنوب، والذي يعاني من التهميش والإقصاء لصالح الشمال، وفي سائر أنحاء البلاد، عن مقتل ما لا يقل عن 128 شخصًا وإصابة 518 آخرين بجروح متفاوتة، وذلك بحسب تقرير اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، والذي أدان الاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الأمن والجيش. وقد طرحت اللجنة حينها عدة تساؤلات جوهرية على الحكومة، منها: لماذا لم يتم فتح تحقيق قضائي مستقل في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت؟، كما طالبت بمحاكمة الجناة وتقديمهم للعدالة.

لماذا إعلان الترشح الآن؟

يأتي إعلان ديبي عن ترشحه للانتخابات الرئاسية، بعد تمهيد الأوضاع السياسية في البلاد عبر سلسلة من الإجراءات والخطوات الاستباقية:

فهو يأتي بعد فترة وجيزة من الاستفتاء الدستوري الذي شهدته البلاد في نهاية العام الماضي، والذي يهدف "ظاهريًا" إلى العودة إلى النظام الدستوري، وحل الأزمة السياسية العميقة التي تعصف بالبلاد.

وهو الاستفتاء الذي عارضته قوى المعارضة بشدة، معتبرة إياه يكرس لترشح ديبي للانتخابات القادمة، لذا عمل المجلس الانتقالي بكل ما أوتي من قوة على حشد التأييد للتصويت بـ "نعم" في الاستفتاء المذكور.

كما عمل المجلس الانتقالي أيضًا على تشتيت قوى المعارضة وإضعافها من خلال استمالة بعض رموزها البارزين، وفي مقدمتهم نجاح ماسرا، الذي عاد من المنفى بعد أحداث أكتوبر/تشرين الأوّل 2022، وبموجب "اتفاق كينشاسا" الذي تم التوصل إليه في أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، وبعدما وافق ماسرا على إصدار عفو عام شامل، وعدم مساءلة جميع المتورطين في أعمال العنف التي وقعت في حينه، بمن فيهم أفراد "الشرطة والجيش".

كما أعلن ماسرا بصورة شبه علنية عن تأييده للدستور الجديد المثير للجدل، على الرغم من أنه كان من أشد المعارضين للنظام القائم، وقدّم نفسه على أنه "الطريق الثالث" بين النظام والمعارضة، حيث صرح بأن هذا الدستور "ليس الأفضل على الإطلاق، ولكنه يمثل تقدمًا نسبيًا". وقد دفع هذا التصريح بعض خصومه إلى تذكيره بأنه قاد بنفسه حملة شعبية واسعة النطاق في عام 2022 لمنع قادة المرحلة الانتقالية من الترشح في الانتخابات الرئاسية.

ومن ناحية أخرى، جاء إعلان الترشح بعد تشكيل حكومة جديدة، عهد بها إلى ماسرا في أوائل هذا العام، وذلك كنوع من المكافأة والتحفيز له، بدلًا من حكومة صالح كيبزابو ("الاتحاد الوطني من أجل الديمقراطية والتجديد")، الذي كان يتوقع إعادة تعيينه في منصبه، لأنه قاد معسكر "نعم" خلال الاستفتاء الدستوري.

لكن يبدو أن ديبي يرى في صالح، "المعارض السابق" لوالده، شخصية قوية ونافذة في أوساط الحكومة، وفي الجنوب أيضًا، الأمر الذي قد يدفعه إلى الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة، لذا سعى للتخلص منه عبر استمالة شخصية أخرى وازنة من الجنوب أيضًا، والتي لعبت دورًا هامًا في التوصل إلى اتفاق كينشاسا، حيث وقّع عليه ماسرا نيابة عن كافة قوى المعارضة، التي اعتبرت بدورها أنه لا يمثلها، وأن الاتفاق برمّته هو والعدم سواء.

كما أن ماسرا يحظى، بصفته رجل اقتصاد ورئيس شركة "Transformateurs "، بعلاقات متينة وجيدة مع كل من فرنسا والولايات المتحدة، وكذلك المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا (ECCAS)، التي لعبت دورًا بالغ الأهمية في التوصل إلى اتفاق كينشاسا.

وقد تخلص النظام من يحيى ديلو جرو، ابن عمه والشخصية المعارضة البارزة، ورئيس "الحزب الاشتراكي بلا حدود"، ورئيس قوات الدفاع الشعبي، والمرشح الرئاسي المحتمل، وهو من قبيلة "الزغاوة" نفسها التي ينتمي إليها الرئيس، وذلك بعدما وجهت السلطات تهماً له ولأعضاء في حزبه بمهاجمة وكالة الأمن الداخلي، وبالتحريض على الاعتداء على رئيس المحكمة، حيث تمت تصفيته على يد قوات الأمن بعد الهجوم على مقر حزبه.

ولقد تكرر هذا السيناريو المأساوي مع ديلو في عام 2021، بعد عزمه الترشح في الانتخابات أمام ديبي الأب، حيث تعرض حينها لمحاولة اغتيال فاشلة إثر اقتحام منزله من قبل عناصر قوات التدخل السريع، بحجة أنه رفض الامتثال لأوامر قضائية. وقد أسفر الاقتحام عن مقتل والدته، وإصابة عدد من أفراد عائلته بجروح.

ولقد كان ديلو أحد أبرز المعارضين في أحداث أكتوبر/تشرين الأول 2022، كما رفض اتفاق كينشاسا المشبوه، والعفو الصادر لصالح قوات الشرطة والجيش، حيث علق عليه في حينه قائلاً: "بعد مطالعة الاتفاق، أشعر بالأسف الشديد لأن حزبًا سياسيًا يسمح لنفسه بالتحدث باسم الضحايا وجميع الأطراف الفاعلة. هذا الاتفاق الذي يبرئ مرتكبي قمع 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022 لا يلزم سوى الموقعين عليه، وسنواصل النضال الدؤوب حتى تحقيق العدالة لجميع الضحايا وإرساء الديمقراطية الحقيقية".

كما كان من أشد المعارضين للاستفتاء الدستوري الأخير، وازدادت شهرته ونفوذه بعد نجاح النظام في استمالة ماسرا إلى صفّه.

ديبي الابن والدعم الفرنسي

يحظى ديبي الابن، على غرار والده، بدعم فرنسي راسخ وكبير، ظهر جليًا وواضحًا مع الانقلاب الذي قام به الابن بعد رحيل والده قبل ثلاث سنوات، حيث تقبلت باريس الأمر الواقع في تشاد، في الوقت الذي رفضت فيه الانقلاب العسكري في مالي.

وتعول باريس كثيرًا على تشاد منذ عملية "برخان" التي قادتها ضد الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الأفريقي، وكانت العاصمة نجامينا بمثابة المقر الرئيسي لهذه القوات، حيث توجد بها قاعدة عسكرية فرنسية ضخمة، فضلاً عن كون تشاد عضوًا فاعلاً في مجموعة دول الساحل الخمس (G-5)، والتي تواجه صعوبات جمة بعد انسحاب مالي منها، ثم النيجر وبوركينا فاسو مؤخرًا.

وبالتالي، لم يبقَ في المجموعة سوى تشاد وموريتانيا، وقد لعبت تشاد دورًا محوريًا في تنفيذ الأجندة الفرنسية في دول الجوار ("السودان، ليبيا")، فضلاً عن مساهمتها بثالث أكبر قوة عسكرية في "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي" (مينوسما)، والتي أنهى مجلس الأمن ولايتها في شهر يونيو/ حزيران الماضي.

لذا، فإن فرنسا لن تتخلى بسهولة عن حليف قوي وموثوق به في المنطقة مثل إدريس ديبي، خصوصًا أن قوى المعارضة تلوح بالرغبة الأكيدة في التخلص من هذا النفوذ الفرنسي المتغلغل، والبحث عن بدائل أخرى أكثر استقلالية. وربما تكون روسيا إحدى هذه البدائل المطروحة، ولعلنا نتذكر جيدًا قيام المتظاهرين الغاضبين في شهر مايو/أيار من عام 2022 بحرق العلم الفرنسي ورفع العلم الروسي عاليًا، احتجاجًا على الدعم الفرنسي السافر للمجلس العسكري الحاكم.

لذا، فلا غرابة إطلاقًا في أن يمر إعلان ترشح ديبي للرئاسة دون ضجيج دولي يُذكر، على الرغم من أن التوجه الدولي السابق كان يقتضي رفض ترشح أي عضو من أعضاء المجلس العسكري في الانتخابات الرئاسية. وستخرج بالطبع البيانات "التقليدية" المعهودة من العواصم الغربية، والتي تطالبه بضرورة الإصلاح الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان.

لتبقى البلاد مرة أخرى تحت هيمنة العسكر المستترة في زيّ "ديمقراطي" مزيف، ولتفتح تشاد الباب واسعًا أمام تكرار هذا النموذج المشين في كل من الغابون، والنيجر، وبوركينا فاسو، والتي شهدت انقلابات عسكرية متتالية خلال الفترة الماضية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة